سورة النساء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


الجار: القريب المسكن منك، وألفه منقلبة عن واو لقولهم: جاورت، ويجمع على جيران وجيرة. والجنب: البعيد. والجنابة البعد قال:
فلا تحرمني نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤ وسط القباب غريب
وهو من الاجتناب، وهو أن يترك الرجل جانباً. وقال تعالى: {واجنبني} أي بعدني، وهو وصف على فعل كناقة سرح.
المختال: المتكبر، وهو اسم فاعل من اختال، وألفه منقلبة عن ياء لقولهم: الخيلاء والمخيلة. ويقال: خال الرجل يخول خولاً إذا تكبر وأعجب بنفسه، فتكون هذه مادة أخرى، لأن تلك مركبة من خيل خ ي ل، وهذه مادة من خ ول. الفخور: فعول من فخر، والفخر عد المناقب على سبيل الشغوف والتطاول.
القرين: فعيل بمعنى مفاعل، من قارنه إذا لازمه وخالطه، ومنه سميت الزوجة قرينة. ومنه قيل لما يلزمن الإبل والبقر: قرينان، وللحبل الذي يشدان به قرن قال الشاعر:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن *** لم يستطع صوله البزل القناعيس
وقال:
كمدخل رأسه لم يدنه أحد *** من القرينين حتى لزه القرن
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} تقدم شرح نظير هذه الجملة في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا} ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح، بيّن كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح، وإلى ملك اليمين، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل، والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة، فيدخل فيه: السرقة، والخيانة، والغصب، والقمار، وعقود الربا، وأثمان البياعات الفاسدة، فيدخل فيه بيع العربان وهو: أن يأخذ منك السلعة ويكري الدابة ويعطي درهماً مثلاً عرباناً، فإن اشترى، أو ركب، فالدرهم من ثمن السلعة أو الكراء، وإلا فهو للبائع. فهذا لا يصح ولا يجوز عند جماهير الفقهاء، لأنه من باب أكل المال بالباطل. وأجاز قوم منهم: ابن سيرين، ومجاهد، ونافع بن عبيد، وزيد بن أسلم: بيع العربان على ما وصفناه، والحجج في كتب الفقه.
وقد اختلف السلف في تفسير قوله: بالباطل. فقال ابن عباس والحسن: هو أن يأكله بغير عوض. وعلى هذا التفسير قال ابن عباس: هي منسوخة، إذ يجوز أكل المال بغير عوض إذا كان هبة أو صدقة أو تمليكاً أو إرثاً، أو نحو ذلك مما أباحت الشريعة أخذه بغير عوض. وقال السدي: هو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم، وغير ذلك مما لم يبح الله تعالى أكل المال به. وعلى هذا تكون الآية محكمة وهو قول ابن مسعود والجمهور. وقال بعضهم: الآية مجملة، لأن معنى قوله: بالباطل، بطريق غير مشروع. ولمّا لم تكن هذه الطريق المشروعة مذكورة هنا على التفصيل، صارت الآية مجملة.
وإضافة الأموال إلى المخاطبين معناه: أموال بعضكم. كما قال تعالى: {فمن ما ملكت أيمانكم} وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} وقيل: يشمل قوله: أموالكم، مال الغير ومال نفسه. فنهى أن يأكل مال غيره إلا بطريق مشروع، ونهى أن يأكل مال نفسه بالباطل، وهو: إنفاقه في معاصي الله تعالى. وعبر هنا عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل من أغلب مقاصده وألزمها.
{إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} هذا استثناء منقطع لوجهين: أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل فتستثنى منها سواء أفسرت قوله بالباطل بغير عوض كما قال: ابن عباس، أم بغير طريق شرعي كما قاله غيره. والثاني: أن الاستثناء إنما وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال. ومن ذهب إلى أنه استثناء متصل فغير مصيب لما ذكرناه. وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على الحصر في أنه لا يجوز أكل المال إلا بالتجارة فقط، بل ذكر نوع غالب من أكل المال به وهو: التجارة، إذ أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.
وفي قوله: عن تراض دلالة على أنّ ما كان على طريق التجارة فشرطه التراضي، وهو من اثنين: الباذل للثمن، والبائع للعين. ولم يذكر في الآية غير التراضي، فعلى هذا ظاهر الآية يدل على أنه لو باع ما يساوي مائة بدرهم جاز إذا تراضيا على ذلك، وسواء أعلم مقدار ما يساوي أم لم يعلم. وقالت فرقة: إذا لم يعلم قدر الغبن وتجاوز الثلث، ردّ البيع. وظاهرها يدل على أنه إذا تعاقد بالكلام أنه تراض منهما ولا خيار لهما، وإن لم يتفرقا. وبه قال: أبو حنيفة، ومالك، وروى نحوه عن عمر. وقال الثوري، والليث، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي: إذا عقدا فهما على الخيار ما لم يتفرّقا، واستثنوا صوراً لا يشترط فيها التفرق، واختلفوا في التفرق. فقيل: بأن يتوارى كل منهما عن صاحبه. وقال الليث: بقيام كل منهما من المجلس. وكل من أوجب الخيار يقول: إذا خيره في المجلس فاختار، فقد وجب البيع. وروى خيار المجلس عن عمر أيضاً. وأطال المفسرون بذكر الاحتجاج لكل من هذه المذاهب، وموضوع ذلك كتب الفقه.
والتجارة اسم يقع على عقود المعاوضات المقصود منها طلب الأرباح. وأن تكون في موضع نصب أي: لكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه. وقرأ الكوفيون: تجارة بالنصب، على أن تكون ناقصة على تقدير مضمر فيها يعود على الأموال، أو يفسره التجارة، والتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم. كما قال: إذا كان يوماً ذا كوكب أشنعا. أي إذا كان هواي اليوم يوماً ذا كوكب. واختار قراءة الكوفيين أبو عبيد، وقرأ باقي السبعة: تجارة بالرفع، على أنّ كان تامة.
وقال مكي بن أبي طالب: الأكثر في كلام العرب أن قولهم إلا أن تكون في الاستثناء بغير ضمير فيها على معنى يحدث أو يقع، وهذا مخالف لاختيار أبي عبيد. وقال ابن عطية: تمام كان يترجح عند بعض لأنها صلة، فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي، ولكنه حسن انتهى ما ذكره. ويحتاج هذا الكلام إلى فكر، ولعله نقص من النسخة شيء يتضح به هذا المعنى الذي أراده. وعن تراض: صفة للتجارة أي: تجارة صادرة عن تراض.
{ولا تقتلوا أنفسكم} ظاهره النهي عن قتل الإنسان نفسه كما يفعله بعض الجهلة بقصد منه، أو بحملها على غرر يموت بسببه، كما يصنع بعض الفتاك بالملوك، فإنهم يقتلون الملك ويقتلون بلا شك. وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد، وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردّة والزنا بعد الإحصان. قال ابن عطية: وأجمع المتأوّلون أنّ القصد النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً. وقال الزمخشري عن الحسن: إن المعنى لا تقتلوا إخوانكم انتهى. وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم لأنهم كنفس واحدة، أو من جنس واحد، أو من جوهر واحد. ولأنه إذا قتل قتلَ على سبيل القصاص، وكأنه هو الذي قتل نفسه. وما ذكره ابن عطية من إجماع المتأوّلين ذكر غيره فيه الخلاف. قال ما ملخصه: يحتمل أن يراد حقيقة القتل، فيحتمل أن يكون المعنى: لا يقتل بعضكم بعضاً. ويحتمل أن يكون المعنى: لا يقتل أحد نفسه لضر نزل به، أو ظلم أصابه، أو جرح أخرجه عن حد الاستقامة. ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي: يأكل المال بالباطل، أو بطلب المال والانهماك فيه، أو يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى الهلاك، أو يفعل هذه المعاص والاستمرار عليها. فيكون القتل عبر به عن الهلاك مجازاً كما جاء: شاهد قتل ثلاثاً نفسه، والمشهود له، والمشهود عليه أي: أهلك. وقرأ علي والحسن: ولا تقتلوا بالتشديد.
{إن الله كان بكم رحيماً} حيث نهاكم عن إتلاف النفوس، وعن أكل الحرام، وبين لكم جهة الحل التي ينبغي أن يكون قوام الأنفس. وحياتها بما يكتسب منها، لأنّ طيب الكسب ينبني عليه صلاح العبادات وقبولها. ألا ترى إلى ما ورد مَن حجّ بمال حرام أنه إذا قال: لبيك قال الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. وألا ترى إلى الداعي ربه ومطعمه حرام وملبسه حرام كيف جاء أنّى يستجاب له؟ وكان النهي عن أكل المال بالباطل متقدماً على النهي عن قتل أنفسهم، لأنه أكثر وقوعاً، وأفشى في الناس من القتل، لا سيما إن كان المراد ظاهر الآية من أنه نهى أن يقتل الإنسان نفسه، فإن هذه الحالة نادرة.
وقيل: رحيماً حيث لم يكلفكم قتل أنفسكم حين التوبة كما كلف بني إسرائيل قتلهم أنفسهم، وجعل ذلك توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم.
{ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً} الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل، وقتل الأنفس. لأن النهي عنهما جاء متسقاً مسروداً، ثم ورد الوعيد حسب النهي. وذهب إلى هذا القول جماعة. وتقييد أكل المال بالباطل بالاعتداء والظلم على هذا القول ليس المعنى أن يقع على جهة لا يكون اعتداء وظلماً، بل هو من الأوصاف التي لا يقع الفعل إلا عليه. وقيل: إنما قال: عدواناً وظلماً ليخرج منه السهو والغلط، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام. وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضاً بقوله: عدواناً وظلماً، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك، ويقع خطأ واقتصاصاً. وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو: قتل الأنفس، وهو قول عطاء، واختيار الزمخشري. قال: ذلك إشارة إلى القتل أي: ومن يقدم على قتل الأنفس عدواناً وظلماً لا خطأ ولا اقتصاصاً انتهى. ويكون نظير قوله: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم} وذهب الطبري: إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن} إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد. وما ذهب إليه الطبري بعيد جداً لأن كل جملة قد استقلت بنفسها، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة، ولا تعلق اضطرار المعنى. وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله: ومن يفعل ذلك. وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل، قال: وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل، أو قتل النفس بغير حق، أو إليهما جميعاً انتهى. فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال.
وانتصاب عدواناً وظلماً على المفعول من أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين. وقرئ عدواناً بالكسر. وقرأ الجمهور: نصليه بضم النون. وقرأ النخعي والأعمش: بفتحها من صلاة، ومنه شاة مصلية. وقرئ أيضاً: نصليه مشدداً. وقرئ: يصليه بالياء، والظاهر أن الفاعل هو ضمير يعود على الله أي: فسوف يصليه هو أي: الله تعالى. وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على ذلك قال: لكونه سبباً للمصلي، وفيه بعد.
ومدلول ناراً مطلق، والمراد والله أعلم تقييدها بوصف الشدّة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
{وكان ذلك على الله يسيراً} ذلك إشارة إلى إصلائه النار، ويسره عليه تعالى سهولته، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له. وقال الزمخشري: لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه، وفيه دسيسة الاعتزال.
{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} مناسبة هذه الآية ظاهره، لأنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر، ذكر الوعد على اجتناب الكبائر. والظاهر أنّ الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر. وقد اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فمن الصغائر النظرة واللمسة والقبلة ونحو ذلك مما يقع عليه اسم التحريم، وتكفر الصغائر باجتناب الكبائر. وذهب جماعة من الأصوليين منهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، وأبو المعالي، وأبو نصر عبد الرحيم القشيري: إلى أن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرّمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، ولا ذنب يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذنب كبيرة وصاحبه ومرتكبه في المشيئة غير الكفر. وحملوا قوله تعالى: كبائر ما تنهون عنه على أنواع الشرك والكفر قالوا: ويؤيده قراءة كبير على التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: «» من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل: يا رسول الله وإن كان يسيراً؟ قال: «إن كان قضيباً من أراك» فقد جاء الوعيد على اليسير، كما جا على الكثير. وروي عن ابن عباس مثل قول هؤلاء قال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
والذين ذهبوا إلى انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، وأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر على ما اقتضاه ظاهر الآية وعضده الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من قوله: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله» وفي صحيح مسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
واختلفوا في الكبائر فقال ابن مسعود: هي ثلاث، القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وروي عنه أيضاً أنها أربع: فزاد الإشراك بالله. وقال علي: هي سبع: الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرّب بعد الهجرة.
وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول عليّ في كل واحدة منها آية في كتاب الله، وجعل الآية في التعرب: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} الآية وفي البخاري: «اتقوا السبع الموبقات» فذكر هذه إلا التعرب، فجاء بدله السحر. وقد ذهب قوم إلى أن هذه الكبائر هي هذه السبع التي ثبتت في البخاري. وقال ابن عمر: فذكر هذه إلا السحر، وزاد الإلحاد في المسجد الحرام. والذي يستسخر بالوالدين من العقوق. وقال ابن مسعود أيضاً والنخعي: هي جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها، وهي: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} وقال ابن عباس أيضاً فيما روي عنه: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وقال ابن عباس أيضاً: الكبائر كل ما ورد عليه وعيد بنار، أو عذاب، أو لعنة، أو ما أشبه ذلك. وإلى نحو من هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي القرطبي، قال: قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصحّ لي أن كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر، ووجدناه عليه السلام قد أدخل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث يعني الذي في البخاري فمنها، قول الزور، وعقوق الوالدين، والكذب عليه صلى الله عليه وسلم، وتعريض المرء أبويه للسبّ بأن يسبّ آباء الناس، وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر، وعلى كفر نعمة المحسن في الحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلق الشعر فيها، وخرق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر، وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة لأكل ما يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها، وعلى لسان الإزار على سبيل التجوه، وعلى المنان بما يفعل من الخير، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى المانع فضل مائه من الشارب، وعلى الغلول، وعلى متابعة الأئمة للدنيا فإن أعطوا منها وفي لهم وإن لم يعطوا منها لم يوف لهم، وعلى المقطتع بيمينه حق امرئ مسلم، وعلى الإمام الغاش لرعيته، ومن ادعى إلى غير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، ومن ادعى ما ليس له، وعلى لاعن من لا يستحق اللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض عليّ رضي الله عنه، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة، وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة، فصح بهذا قول ابن عباس انتهى كلامه. يعني قوله هي: إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وروي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى سبعمائة أقرب، لأنه لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
وقد اختلف القائلون بأنه يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، هل التكفير قطعي؟ أو غالب ظن؟ فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث ذهبوا إلى أنه قطعيّ كما دلت عليه الآية والأحاديث، والأصوليون قالوا: هو على غلبة الظن، وقالوا: لو كان ذلك قطعياً لكانت الصغائر في حكم المباح يقطع بأن لا تبعة فيه، ووصف مدخلاً بقوله: كريماً ومعنى كرمه: فضيلته، ونفى العيوب عنه كما تقول: ثوب كريم، وفلان كريم المحتد.
ومعنى تكفير السيئات إزالة ما يستحق عليها من العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، وذلك مرتب على اجتناب الكبائر.
وقرأ ابن عباس وابن جبير: إن تجتنبوا كبير على الافراد، وقد ذكرنا من احتج به على أنه أريد الكفر. وأمّا من لم يقل ذلك فهو عنده جنس.
وقرأ المفضل عن عاصم: يكفر ويدخلكم بالياء على الغيبة.
وقرأ ابن عباس: من سيئاتكم بزيادة من.
وقرأ نافع: مدخلاً هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورويت عن أبي بكر. وقرأ باقي السبعة بضمها وانتصاب المضموم الميم إمّا على المصدر أي: إدخالاً، والمدخل فيه محذوف أي: ويدخلكم الجنة إدخالاً كريماً. وإمّا على أنه مكان الدخول، فيجيء الخلاف الذي في دخل، أهي متعدية لهذه الأماكن على سبيل التعدية للمفعول به؟ أم على سبيل الظرف؟ فإذا دخلت همزة النقل فالخلاف. وأما انتصاب المفتوح الميم فيحتمل أن يكون مصدر الدخل المطاوع لأدخل، التقدير: ويدخلكم فتدخلون دخولاً كريماً، وحذف فتدخلون لدلالة المطاوع عليه، ولدلالة مصدره أيضاً. ويحتمل أن يراد به المكان، فينتصب إذ ذاك إما بيدخلكم، وإما بدخلتم المحذوفة على الخلاف، أهو مفعول به أو ظرف.
{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} قال قتادة والسدي: لما نزل {للذكر مثل حظ الأنثيين} قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات كالميراث.
وقال النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كالميراث. وقال عكرمة: قال النساء: وددنا أنّ الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر مثل ما يصيب الرجال. وزاد مجاهد: أن ذلك عن أم سلمة. وأنها قالت: وإنما لنا نصف الميراث فنزلت. وروي عنها أنها قالت: ليتنا كنا رجالاً فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل، وعن قتل الأنفس، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها وتحصيل حطامها، نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض، إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا وشوق النفس إليها بكل طريق، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل وقتل الأنفس، حتى نهى عن السبب المحرّض على ذلك، وكانت المبادرة إلى النهي عن المسبب آكد لفظاعته ومشقته فبدئ به، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسماً لمادة المسبب، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة.
وظاهر الآية يدل على النهي أن يتمنى الإنسان لنفسه ما فضل به عليه غيره، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له.
وتمني ذلك هو أن يكون له مثل ما لذلك المفضل. وقال ابن عباس وعطاء: هو أن يتمنى مال غيره. وقال الزمخشري: نهوا عن الحسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح للمقسوم له من بسط في الرزق أو قبض انتهى. وهو كلام حسن. وظاهر النهي إنما يتناول ما فضل الله به بعضهم على بعض. أما تمني أشياء من أحوال صالحة له في الدنيا وأعمال يرجو بها الثواب في الآخرة فهو حسن لم يدخل في الآية. وقد جاء في الحديث: «وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى ثم أقتل» وفي آخر الآية: {واسألوا الله من فضله} فدل على جواز ذلك. وإذا كان مطلق تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض منهياً عنه، فإن يكون ذلك بقيد. زوال نعمة من فضل عليه عنه بجهة الأحرى. والأولى إذ هو الحسد المنهى عنه في الشرع، والمستعاذ بالله منه في نص القرآن. وقد اختلفوا إذا تمنى حصول مثل نعمة المفضل عليه له من غير أن تذهب عن المفضل، فظاهر الآية المنع، وبه قال المحققون، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين، ومضرة عليه في الدنيا، فلا يجوز أن يقول: اللهم أعطني. داراً مثل دار فلان، ولا زوجاً مثل زوجه، بل يسأل الله ما شاء من غير تعرض لمن فضل عليه. وقد أجازه بعض الناس.
{للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} قال ابن عباس وقتادة: معناه من الميراث، لأن العرب كانت لا تورث النساء. وضعف هذا القول لأن لفظ الاكتساب ينبو عنه، لأن الاكتساب يدل على الاعتمال والتطلب للمكسوب، وهذا لا يكون في الإرث، لأنه مال يأخذه الوارث عفواً بغير اكتساب فيه، وتفسير قتادة هذا متركب على ما قاله في سبب نزول الآية. وقيل: يعبر بالكسب عن الإصابة، كما روي أنّ بعض العرب أصاب كنزاً فقال له ابنه: بالله يا أبه أعطني من كسبك نصيباً، أي مما أصبت. ومنه قول خديجة رضي الله عنها: وتكسب المعدوم. قالوا: ومنه قول الشاعر:
فإن أكسبوني نزر مال فإنني *** كسبتهم حمداً يدوم مع الدهر
وقالت فرقة: المعنى أن الله تعالى جعل لكل من الصنفين مكاسب تختص به، فلا يتمنى أحد منها ما جعل للآخر. فجعل للرجال الجهاد والإنفاق في المعيشة، وحمل التكاليف الشاقة كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك. وجعل للنساء الحمل ومشقته، وحسن التبعل، وحفظ غيب الزوج، وخدمة البيوت.
وقيل: المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا، فينبغي أن يرضى بما قسم الله له. وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا. وقالت فرقة: المعنى نصيب من الأجر والحسنات. وقال الزمخشري: جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض كسباً له انتهى. وفي قوله: عرف الله نظر، فإنه لا يقال في الله عارف، نص الأئمة على ذلك، لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلاً بالمعروف، وذلك بخلاف العلم، فإنه لا يستدعي جهلاً قبله. وتسمية ما قسم الله كسباً له فيه نظر أيضاً، فإنّ الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه، إلا إن قلنا أنَّ أكثر ما قسم له يستدعي اكتساباً من الشخص، فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليباً للأكثر. وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير.
{واسألوا الله من فضله} أي من زيادة إحسانه ونعمه. لما نهاهم عن تمني ما فضل به بعضهم، أمرهم بأن يعتمدوا في المزيد عليه تبارك وتعالى. وظاهر قوله: من فضله، العموم فيما يتعلق بأحوال الدنيا وأحوال الآخرة، لأن ظاهر قوله: {ولا تتمنوا} ما فضل العموم أيضاً، وهو قول الجمهور. وقال ابن جبير وليث بن أبي سليم: هذا في العبادات والدين وأعمال البر، وليس في فضل الدنيا. وفي قوله: من فضله، دلالة على عدم تعيين المطلوب، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لإصلاح دينه ودنياه على سبيل الإطلاق، كما قال تعالى: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة}
وقرأ ابن كثير والكسائي: وسلوا بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السين، وذلك إذا كان أمراً للمخاطب، وقبل السين واو أو فاء نحو: {فسل الذين يقرؤن} و{فاسألوا أهل الذكر} وقرأ باقي السبعة بالهمز. قال ابن عطية: إلا في قوله: {واسألوا ما أنفقتم} فإنهم أجمعوا على الهمز فيه انتهى. وهذا الذي ذكره ابن عطية وهم، بل نصوص المقرئين في كتبهم على أن واسألوا ما أنفقتم من جملة المختلف فيه. بيَّن ابن كثير والكسائي، وبين الجماعة، ونص على ذلك بلفظه ابن شيطا في كتاب التذكار، ولعل الوهم وقع له في ذلك من قول ابن مجاهد في كتاب السبعة له، ولم يختلفوا في قوله: {وليسألوا ما أنفقوا} أنه مهموز لأنه لغائب انتهى. وروى الكسائي عن اسماعيل بن جعفر عن أبي جعفر وشيبة: أنهما لم يهمزا وسل ولا فسل، مثل قراءة الكسائي، وحذف الهمزة في سل لغة الحجاز، وإثباتها لغة لبعض تميم. وروى اليزيدي عن أبي عمرو: أن لغة قريش سل. فإذا أدخلوا الواو والفاء همزوا، وسأل يقتضي مفعولين، والثاني لقوله: واسألوا الله هو قوله: من فضله. كما تقول: أطعمت زيداً من اللحم، وكسوته من الحرير، والتقدير: شيئاً من فضله، وشيئاً من اللحم، وشيئاً من الحرير.
وقال بعض النحويين: من زائدة، والتقدير: وسلوا الله فضله، وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش. وقال ابن عطية: ويحسن عندي أن يقدر المفعول أمانيكم إذ ما تقدم يحسن هذا المعنى.
{إن الله كان بكلّ شيء عليماً} أي علمه محيط بجميع الأشياء فهو عالم بما فضل به بعضكم على بعض وما يصلح لكلّ منكم من توسيع أو تقتير فإياكم والاعتراض بتمن أو غيره وهو عالم أيضاً بسؤالكم من فضله فيستجيب دعاءكم {ولكل جعل


{وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله} ظاهر هذا الكلام أنه ملتحم لحمة واحدة، والمراد بذلك: ذمّهم وتوبيخهم وتجهيلهم بمكان سعادتهم، وإلا فكل الفلاح والمنفعة في اتصافهم بما ذكر تعالى. فعلى هذا الظاهر يحتمل أن يكون الكلام جمليتن، وتكون لو على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، والتقدير: وماذا عليهم في الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق في سبيل الله لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله لحصلت لهم السعادة. ويحتمل أن يكون جملة واحدة، وذلك على مذهب من يثبت أن لو تكون مصدرية في معنى: أن كأنه قيل: وماذا عليهم أن آمنوا، أي في الإيمان بالله، ولا جواب لها إذ ذاك، فيكون كقوله:
وماذا عليه أن ذكرت أوانسا *** كغزلان رمل في محاريب أقيال
قالوا: ويجوز أن يكون قوله: وماذا عليهم، مستقلاً لا تعلق له بما بعده، بل ما بعده مستأنف. أي: وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهم بالبخل وتلك الأوصاف المذمومة، ثم استأنف وقال: لو آمنوا، وحذف جواب لو. وقال ابن عطية: وجواب لو في قوله: ماذا، فهو جواب مقدم انتهى. فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقاً لكلام النحويين، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو، ولأن قولهم: أكرمتك لو قام زيد، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أكرمتك دال على الجواب، لا جواب كما قالوا في قولهم: أنت ظالم إن فعلت. وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله.
وماذا: يحتمل أن تكون كلها استفهاماً، والخبر في عليهم. ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام، وذا بمعنى الذي وهو الخبر، وعليهم صلة ذا. وإذا كان لو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله: وماذا عليهم، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة، وقد تعلقت المعتزلة بذلك. قال أبو بكر الرازي: تدل على بطلان مذهب الجهمية أهل الجبر، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما أجاز أن يقال ذلك فيهم، لأنّ عَذرهم واضح وهو أنّهم غير متمكنين مما دعوا إليه، ولا قادرين، كما لا يقال للأعمى: ماذا عليه لو أبصر، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحاً. وفي ذلك أوضح دليل على أنّ الله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه. وهو قول المعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر: الجبرية، والقدرية، والمعتزلة، وأهل السنة. قال ابن عطية: والانفصال عن شبهة المعتزلة أنّ المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى.
ولما وصفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه، فبدأ أولاً بالبخل، ثم بالأمر به، ثم بكتمان فضل الله، ثم بالإنفاق رياء، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر. ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر، إذ بذلك تحصل السعادة الأبدية، ثم عطف عليه الإنفاق أي: في سبيل الله، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل، والأمر به وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس.
{وكان الله بهم عليماً} خبر يتضمن وعيداً وتنبيهاً على سوء بواطنهم، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم.
قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبديع. التكرار وهو في: نصيب مما اكتسبوا، ونصيب مما اكتسبن. والجلالة: في واسئلوا الله، إن الله، وحكماً من أهله، وحكماً من أهلها، وبعضكم على بعض، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وقريناً وساء قريناً. والجلالة في: مما رزقهم الله، وكان الله. والتجنيس المغاير في: حافظات للغيب بما حفظ الله، وفي: يبخلون وبالبخل. ونسق الصفات من غير حرف في: قانتات حافظات. والنسق بالحروف على طريق ذكر الأوكد فالأوكد في: وبالوالدين إحساناً وما بعده. والطباق المعنوي في: نشوزهنّ فإن أطعنكم، وفي: شقاق بينهما ويوفق الله. والاختصاص في قوله: من أهله ومن أهلها، وفي قوله: عاقدت أيمانكم. والإبهام في قوله: به شيئاً وإحساناً، وما ملكت فشيوع شيئاً وإحساناً وما واضح. والتعريض في: مختالاً فخوراً. أعرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدّي للبعد عن الأقارب الفقراء واحتقارهم واحتقار من ذكر معهم. والتأكيد بإضافة الملك إلى اليمين في: وما ملكت أيمانكم. والتمثيل: في ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً. والحذف في عدّة مواضع.


المثقال: مفعال من الثقل، ومثقال كل شيء وزنه، ولا تظنّ أنه الدينار لا غير. الذرة: النملة الصغيرة وقيل: أصغر ما تكون إذا مر عليها حول، وقيل في وصفها. الحمراء. قيل: إذا مر عليها حول صغرت وجرت. قال:
من القاصرات الطرف لو دب محول *** من الذر فوق الاتب منها لاثرا
وقال حسان:
لو يدب الحولى من ولد الذر *** ر عليها لأندبتها الكلوم
وقيل عن ابن عباس: الذرة رأس النملة. وقيل عنه: أدخل يده في التراب ورفعها ثم نفخ فيه، وقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة. وقيل: كل جزء الهباء في الكوة ذرة. وقيل: الذرة هي الخردلة.
السكر: انسداد طريق التمييز بشرب ما يسكر من قولهم: سكرت عين البازي، إذا خالها النوم. ومنه: سكر النهر إذا اسندت مجاريه وسكرته أنا. والسكر: أيضاً بضم السين السد. قال:
فما زلنا على الشرب *** نداوي السكر بالسكر
والسكر: بالفتح ما أسكر، أي منع من التمييز.
الغائط: ما انخفض من الأرض، وجمعه غيطان. ويقال: عيط وغوط. وزعم ابن جني: أن غيطاً فعيل، إذ أصله عنده غيط مثل هين وسيد إذا أخففتهما. والصحيح: أنه فعل. كما أنّ غوطاً فعل، لأن العرب قالت: غاط يغوط ويغيط، فأتت به مرة في ذوات الياء، ومرة في ذوات الواو. وجمعوا غوطاً على أغواط ويقال: تغوّط إذا أحدث وغاط في الأرض يغيط ويغوط غاب فيها حتى لا يظهر إلا لمن وقف عليه. وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطاً من الأرض يستتر فيه عن أعين الناس، ثم قيل: للحدث. نفسه غائطاً، كما قيل: سال الميزان وجري النهر.
{إن الله لا يظلم مثقال ذرّة} نزلت في المهاجرين الأوّلين. وقيل: في الخصوم. وقيل: في عامة المؤمنين. ومناسبة هذه لما قبلها واضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته تعالى وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه، ثم وبخ من لم يؤمن، ولم ينفق في طاعة الله، فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبر تعالى بصفة عدله، وأنه عزّ وجل لا يظلم أدنى شيء، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} وضرب مثلاً لأحقر الأشياء وزن ذرة، وذلك مبالغة عظيمة في الانتفاء عن الظلم البتة. وظاهر قوله: مثقال ذرّة، أن الذرّة لها وزن. وقيل: الذرّة لا وزن لها، وأنه امتحن ذلك فلم يكن لها وزن. وإذا كان تعالى لا يظلم مثقال ذرّة فلأن لا يظلم فوق ذلك أبلغ، ولما كانت الذرة أصغر الموجودات ضرب بها المثل في القلة. وقرأ ابن مسعود: مثقال نملة، ولعل ذلك على سبيل الشرح للذرة.
قال الزمخشري: وفيه دليل على أنه لو نقص من أجره أدنى شيء وأصغره، أو زاد في العقاب، لكان ظلماً. وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة، لا لاستحالته في القدرة انتهى. وهي نزعة اعتزالية. وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» ويظلم يتعدّى لواحد، وهو محذوف وتقديره: لا يظلم أحداً مثقال ذرة. وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف أي: ظلماً وزن ذرّة، كما تقول: لا أظلم قليلاً ولا كثيراً. وقيل: ضمنت معنى ما يتعدّى لاثنين، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان، والأول محذوف التقدير: لا ينقص، أو لا يغضب، أو لا يبخس أحداً مثقال ذرة من الخير أو الشر، {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً}.
حذفت النون من تلك لكثرة الاستعمال، وكان القياس إثبات الواو، لأن الواو إنما حذفت لالتقاء الساكنين. فكان ينبغي أنه إذا حذفت ترجع الواو، ولأن الموجب لحذفها قد زال. ولجواز حذفها شرط على مذهب سيبويه وهو: أن تلاقي ساكنان، فإن لاقته نحو: لم يكن ابنك قائماً، ولم يكن الرجل ذاهباً، لم يجز حذفها. وأجازه يونس، وشرط جواز هذا الحذف دخول جازم على مضارع معرب مرفوع بالضمة، فلو كان مبنياً على نون التوكيد، أو نون الإناث، أو مرفوعاً بالنون، لم يجز حذفها.
وقرأ الجمهور: حسنة بالنصب، فتكون ناقصة، واسمها مستتر فيها عائد على مثقال. وأنث الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث، أو على مراعاة المعنى، لأن مثقال معناه زنة أي: وإن تك زنة ذرّة. وقرأ الحسن والحرميان: حسنة بالرفع على أن تك تامة، التقدير: وإن تقع أو توجد حسنة. وقرأ الإبنان: يضعفها مشدّدة من غير ألف. قال أبو علي: المعنى فيهما واحد، وهما لغتان. ويدل على هذا قراءة من قرأ {يضعف لها العذاب ضعفين} و{فيضعف له أضعافاً كثيرة} وقال أبو عبيدة في كتاب المجاز والطبري: ضاعف يقتضي مراراً كثيرة، وضعف يقتضي مرتين، وكلام العرب يقتضي عكس هذا. لأنّ المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شدّدت اقتضت البنية التكثير فوق مرتين إلى أقصى ما يزيد من العدد، وقد تقدم لنا الكلام في هذا. وقال الزمخشري: يضاعف ثوابها لاستحقاقها ضده الثواب في كل وقت من الأوقات المستقبلة غير المتناهية. وورد تضعيف الحسنة لعشر أمثالها في كتاب الله، وتضعيف النفقة إلى سبعمائة، ووردت أحاديث التضعيف ألفاً وألف ألف، ولا تضاد في ذلك، إذ المراد الكثرة لا التحديد. وإن أريد التحديد فلا تضاد أيضاً، لأن الموعود بذلك جميع المؤمنين، ويختلف باختلاف الأعمال.
وظاهر قوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية أنها عامة في كل أحد، وتخصيص ذلك بالمهاجرين غير ظاهر من لدنه أي: من عنده على سبيل التفضل. قال الزمخشري: سماه أجراً لأنه تابع للأجر لا يثبت إلا بثباته. انتهى قال ابن مسعود وابن جبير وابن زيد الأجر: هنا الجنة. وقيل: لا حد له ولا عد.
{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} هو نبيهم يشهد عليهم بما فعلوا كما قال تعالى: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} والأمة هنا من بعث إليهم النبي من مؤمن به وكافر. لمّا أعلم تعالى بعدله وإيتاء فضله أتبع ذلك بأن نبه على الحالة التي يحضرونها للجزاء ويشهد عليهم فيها.
وكيف في موضع رفع إن كان المحذوف مبتدأ التقدير: فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم، أو كيف صنعهم. وهذا المبتدأ هو العامل في إذا، أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلاً أي: فكيف يصنعون، أو كيف يكونون. والفعل أيضاً هو العامل في إذا. ونقل ابن عطية عن مكيّ: أن العامل في كيف جئنا. قال: وهو خطأ، والاستفهام هنا للتوبيخ، والتقريع، والإشارة بهؤلاء إلى أمة الرسول. وقال مقاتل: إلى الكفار. وقيل: إلى اليهود والنصارى. وقيل: إلى كفار قريش. وقيل: إلى المكذبين وشهادته بالتبليغ لأمته قاله: ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل. أو بإيمانهم قاله أبو العالية، أو بأعمالهم قاله: مجاهد وقتادة. والظاهر أن الشهادة تكون على المشهود عليهم. وقيل: على بمعنى اللام، أي: وجئنا بك لهؤلاء، وهذا فيه بعد. وقال الزجاجي: يشهد لهم وعليهم، وحذف المشهود عليهم في قوله: إذا جئنا من كل أمة بشهيد لجريان ذكره في الجار والمجرور فاختصر، والتقدير: من كل أمة بشهيد على أمته. وظاهر المقابلة يقتضي أن تكون الشهادة عليهم لا لهم، ولا يكون عليهم إلا والمشهود عليهم كانوا منكرين مكذبين بما شهد عليهم به. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك حين قرأ عليه ابن مسعود ذرفت عيناه وبكاؤه والله أعلم هو إشفاق على أمته ورحمة لهم من هول ذلك اليوم. وظاهر قوله: وجئنا بك، أنه معطوف على قوله: جئنا من كل أمة. وقيل: حال على تقدير قد أي وقد جئنا.
{يومئذ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض} التنوين في يومئذ هو تنوين العوض، حذفت الجملة السابقة وعوض منها هذا التنوين، والتقدير: يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول أي: كفروا بالله وعصوا رسوله. والرسول: هنا اسم جنس، ويحتمل أن يكون التنوين عوضاً من الجملة الأخيرة، ويكون الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم.
وأبرز ظاهراً، ولم يأت وعصوك لما في ذكر الرسول من الشرف والتنويه بالرسالة التي هي أشرف ما تحملها الإنسان من الله تعالى، إذ هي سبب السعادة الدنيوية والأخروية، والعامل في: يوم يودّ. ومعنى يودّ: يتمنى. وظاهر وعصوا أنه معطوف على كفروا. وقيل: هو على إضمار موصول آخر أي: والذين عصوا فهما فرقتان. وقيل: الواو واو الحال أي: كفروا وقد عصوا الرسول. وقال الحوفي: يجوز أن يكون يوم مبنياً مع إذ، لأنّ الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن جاز بناؤه معه. وإذ في هذا الموضع اسم ليست بظرف، لأن الظروف إذا أضيف إليها خرجت إلى معنى الاسمية من أجل تخصيص المضاف إليها، كما تخصص الأسماء، ومع استحقاقها الجرّ، والجرّ ليس من علامات الظروف انتهى، وهو كلام جيد.
وقرأ الجمهور: وعصوا الرسول بضم الواو. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو السمال: وعصوا الرسول بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: تسوى بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول، وهو مضارع سوى. وقرأ نافع، وابن عامر: بفتح التاء وتشديد السين، وأصله تتسوى، فأدغمت التاء في السين، وهو مضارع تسوى. وقرأ حمزة والكسائي: تسوّى بفتح التاء وتخفيف السين، وذلك على حذف التاء، إذ أصله تتسوى وهو مضارع تسوى. فعلى قراءة من قرأ تتسوى وتسوّى فتكون الأرض فاعلة. قال أبو عبيدة وجماعة: معناه لو تنشق الأرض ويكونون فيها، وتتسوي هي في نفسها عليهم. والباء بمعنى على. وقالت فرقة: معناه لو تسوّى هي معهم في أن يكونوا تراباً كالبهائم، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المسوية معهم، والمعنى: إنما هو أنهم يستوون مع الأرض. ففي اللفظ قلب يخرج على قولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي. وعلى قراءة من قرأ: تسوى مبنياً للمفعول، فالمعنى أن الله يفعل ذلك على حسب المعنيين السابقين. وقيل: المعنى لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، ومعنى هذا القول هو معنى القول الأول. وقيل: المعنى لو تعدل بهم الأرض أي: يؤخذ منهم ما عليها فدية.
والعامل في يومئذ يود، ومفعول يود محذوف تقديره: تسوية الأرض بهم، ودلّ عليه قوله: لو تسوى بهم الأرض. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابه محذوف تقديره: لسروا بذلك، وحذف لدلالة يودّ عليه. ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل أن جوز ذلك هنا، وكانت إذ ذاك لا جواب لها، بل تكون في موضع مفعول يود.
{ولا يكتمون الله حديثاً} روي عن ابن عباس أن معنى هذه: ودوا إذ فضحتحهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم. وروي عنه أيضاً: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله شيئاً. وقال الحسن: القيامة مواقف، ففي موطن يعرفون سوء أعمالهم ويسألون أن يردوا إلى الدنيا، وفي موطن يكتمون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
وقال الفراء والزجاج: هو كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: لو تسوى بهم الأرض، والمعنى: لا يقدرون على كتمان الحديث لأنه ظاهر عند الله. وقيل: ودوا لو سويت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً. وقيل: لم يعتقدوا أنهم مشركون، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر هذين القولين: ابن الأنباري. قال القاضي: أخبروا بما توهموا، وكانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم أنهم قد كذبوا. وإذا كانت الجملة مندرجة تحت يود فقال الجمهور: هو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين، ما كنا نعمل من سوء، وهذا يتعلق بالآخرة. وقال عطاء: أمر الرسول ونعته وبعثه، وهذا متعلق بالدنيا انتهى. ما لخص من كتاب التحرير والتحبير.
وقال ابن عطية ما ملخصه: استأنف الكلام وأخبر أنهم لا يكتمون حديثاً لنطق جوارحهم بذلك كله حتى يقول بعضهم: والله ربنا ما كنا مشركين، فيقول الله تعالى: كذبتم، ثم تنطق جوارحهم فلا تكتم حديثاً، وهذا قول ابن عباس. وقالت طائفة مثله: إلا أنها قالت: استأنف ليخبر أنّ الكتم لا ينفع وإن كتموا لعلم الله جميع أسرارهم، فالمعنى: ليس ذلك المقام الهائل مقاماً ينفع فيه الكتم. والفرق بين هذا والأول، أن الأول يقتضي أنّ الكتم لا يقع بوجه، والآخر يقتضي أنّ الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع، كما تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد أنه لا ينفع فيه ولا يستمع إليه. وقالت طائفة: الكلام كله متصل، والمعنى: ويودون أنهم لا يكتمون الله حديثاً. وودّهم ذلك إنما هو ندم على كذبهم حين قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين. وقالت طائفة: هي مواطن وفرق انتهى. وقال الزمخشري: لا يقدرون على كتمانه، لأن جوارحهم تشهد عليهم.
وقيل: الواو وللحال يودون أن يدفنوا تحت الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثاً، ولا يكذبون في قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين. لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم، والشهادة عليهم بالشرك. فلشدة الأمر عليهم يتمنون أن تسوى بهم الأرض انتهى. والذي يتلخص في هذه الجملة أن الواو في قوله: ولا يكتمون إما أن تكون للحال، أو للعطف فإن كانت للحال كان المعنى: أنهم يوم القيامة يودون إن كانوا ماتوا وسويت بهم الأرض، غير كاتمين الله حديثاً، فهي حال من بهم، والعامل فيها تسوى. وهذه الحال على جعل لو مصدرية بمعنى أن، ويصح أيضاً الحال على جعل لو حرفاً لما سيقع لوقوع غيره، أي: لو تسوى بهم الأرض غير كاتمين الله حديثاً لكان بغيتهم وطلبتهم. ويجوز أن يكون حالاً من الذين كفروا، والعامل يود على تقدير أن تكون لو مصدرية أي: يوم القيامة يود الذين كفروا إن كانوا سويت بهم الأرض غير كاتمين، وتكون هذه الحال قيداً في الودادة.
أي تقع الودادة منهم لما ذكر في حال انتفاء الكتمان، وهي حالة إقرارهم بما كانوا عليه في الدّنيا من الكفر والتكذيب، ويكون إقرارهم في موطن دون موطن، إذ قد ورد أنهم يكتمون، ويبعد أن يكون حالاً على هذا الوجه. ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره للفصل بين الحال، وعاملها بالجملة. وإن كانت الواو في: ولا يكتمون، للعطف فيحتمل أن يكون من عطف المفردات، ومن عطف الجمل. فإن كانت من عطف المفردات كان ذلك معطوفاً على مفعول يود أي: يودّون تسوية الأرض بهم وانتفاء الكتمان. ويحتمل أن يكون انتفاء الكتمان في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة، وهو قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين. ويبعد جدًّا أن يكون عطف على مفعول يود المحذوف، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. وإن كانت من عطف الجمل فيحتمل أن يكون معطوفاً على يود، أي: يودّون كذا ولا يكتمون الله حديثاً، فأخبر تعالى عنهم بخبرين الودادة وانتفاء الكتمان، ويكون انتفاء الكتمان في بعض مواقف القيامة. ويحتمل أن يكون مفعول يود محذوفاً كما قرّرناه، ولو حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف كما تقدّم. والجملة من قوله: ولا يكتمون معطوفة على لو ومقتضيتها، ويكون تعالى قد أخبر بثلاث جمل: جملة الودادة، والجملة التعليقية من لو وجوابها، وجملة انتفاء الكتمان.
{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم، وحانت صلاة، فتقدّم أحدهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت. وقيل: نزلت بسبب قول ثانياً: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات، فإذا صلوا العشاء شربوها، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر، إلى أن سأل عمر ثالثاً فنزل تحريمها مطلقاً. وهذه الآية محكمة عند الجمهور. وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة. وأعجب من هذا قول عكرمة: أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال، ثم نسخ شرب الخمر بقوله: {فاجتنبوه} ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة، ولا أباح بعد إنزالها مجامعة الصلاة مع السكر. ووجه قول ابن عباس: أنّ مفهوم الخطاب يدل على جواز السكر، وإنما حرم قربان الصلاة في تلك الحال، فنسخ ما فهم من جواز الشرب والسكر بتحريم الخمر.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه لما أمر تعالى بعبادة الله والإخلاص فيها، وأمر ببرّ الوالدين ومكارم الأخلاق، وذم البخل واستطرد منه إلى شيء من أحوال القيامة، وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر، ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر التي يوقعها على غير وجهها، فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها، ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم، وبين الخلق والخطاب بقوله: يا أيها الذين آمنوا للصاحين، لأن السكران إذا عدم التمييز لسكره ليس بمخاطب، لكنه مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه، وبتكفيره ما أضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرّر تكليفه إياها قبل السكر، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق على ما ذهب إليه بعض الناس.
وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلّي المؤمن وهو سكران بقوله: {لا تقربوا الصلاة} لأن النهي عن قربان الصلاة أبلغ من قوله: لا تصلوا وأنتم سكارى ومنه: {ولا تقربوا الزنا} {ولا تقربوا الفواحش} {ولا تقربوا مال اليتيم} والمعنى: لا تغشوا الصلاة. وقيل: هو على حذف مضاف أي: لا تقربوا مواضع الصلاة لقوله: ولا جنباً إلا عابري سبيل على أحد التأويلين في عابري سبيل، وسيأتي إن شاء الله. ومواضع الصلاة هي المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم».
والجمهور على أن المراد: وأنتم سكارى من الخمر. وقال الضحاك: المراد السكر من النوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه» وقال عبيدة السلماني: المراد بقوله وأنتم سكارى إذا كنتم حاقنين، لقوله عليه السلام: «لا يصلين أحدكم وهو حاقن» وفي رواية: «وهو ضام فخذيه» واستضعف قول الضحاك وعبيدة واستبعد. وقال القرطبي: قولهما صحيح المعنى، لأن المطلوب من المصلي الإقبال على عبادة الله تعالى بقلبه وقالبه، بصرف الأسباب التي تشوّش عليه وتقل خشوعه من: نوم، وحقنة، وجوع، وغيره مما يشغل البال. وظاهر الآية يدل على النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر. وقيل: المراد النهي عن السكر، لأن الصلاة قد فرضت عليهم وأوقات السكر ليست محفوظة عندهم ولا بمقدرة، لأن السكر قد يقع تارة بالقليل وتارة بالكثير، وإذا لم يتحرر وقت ذلك عندهم تركوا الشرب احتياطاً لأداء ما فرض عليهم من الصلوات. وأيضاً فالسكر يختلف باختلاف أمزجة الشاربين، فمنهم من سكره الكثير، ومنهم من سكره القليل.
وقرأ الجمهور: سكارى بضم السين. واختلفوا: أهو جمع تكسير؟ أم اسم جمع؟ ومذهب سيبويه أنه جمع تكسير. قال سيبويه في حد تكسير الصفات: وقد يكسرون بعض هذا على فعالى، وذلك قول بعضهم: سكارى وعجالى.
فهذا نصَّ منه على أن فعلى جمع. ووهم الأستاذ أبو الحسن بن الباذش فنسب إلى سيبويه أنه اسم جمع، وأن سيبويه بين ذلك في الأبنية. قال ابن الباذش: وهو القياس، لأنه جاء على بناء لم يجيء عليه جمع ألبتة، وليس في الأبنية إلا نص سيبويه على أنه تكسير، وذلك أنه قال: ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني وكباري، ولا يكون وصفاً، إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وسكارى وكسالى. وحكى السيرافي فيه القولين، ورجح أنه تكسير، وأنه الذي يدل عليه كلام سيبويه. وقرأت فرقة: سكارى بفتح السين نحو ندمان وندامى، وهو جمع تكسير. وقرأ النخعي: سكرى، فاحتمل أن يكون صفة لواحدة مؤنثة كامرأة سكرى، وجرى على جماعة إذ معناه: وأنتم جماعة سكرى. وقال ابن جني: هو جمع سكران على وزن فعلى كقوله: روبي نياماً وكقولهم: هلكى وميدي جمع هالك ومائد. وقرأ الأعمش: سكرى بضم السين على وزن حبلى، وتخريجه على أنه صفة لجماعة أي: وأنتم جماعة سكرى. وحكى جناح بن حبيش: كسلى وكسلى بالضم والفتح قاله الزمخشري. ومعنى حتى تعلموا ما تقولون: حتى تصحوا فتعلموا. جعل غاية السبب والمراد السبب، لأنه ما دام سكران لا يعلم ما يقول وظاهر الآية يدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، ولذلك ذهب عثمان، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، والقاسم، وربيعة، والليث، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني إلى أن السكران لا يلزمه طلاق، واختاره الطبري. وقال أجمع العلماء: على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس، معتوه بالوسواس. ولا يختلفون في أنّ طلاق من ذهب عقله بالبنج غير جائز، فكذلك من سكر من الشراب. وروي عن عمر ومعاوية وجماعة من التابعين: أنّ طلاقه نافذ عليه وهو قول: أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي. قال أبو حنيفة: أفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي إلا الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين امرأته منه. وقال أبو يوسف: يكون مرتداً في حال سكره، وهو قول الشافعي، إلا أنه لا يقتله في حال سكره، ولا يستتيبه. واختلف قوله في الطلاق، وألزم مالك السكران الطلاق والقود في الجراح والعقل، ولم يلزمه النكاح والبيع. قال الماوردي: وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزمه طلاقه. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يلزمه طلاق ولا عتاق. واختلفوا في السكر. فقيل: هو الذي لا يعرف صاحبه الرجل من المرأة قاله: جماعة من السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، ويدل عليه قوله: حتى تعلموا ما تقولون. فظاهره يدل على أنّ السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول. وقال الثوري: السكر اختلال العقل، فإذا خلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف حده. وقال أحمد: إذا تغير عقله في حال الصحة فهو سكران.
وحكى عن مالك نحوه.
قيل: وفي الآية دلالة على أن الشرب كان مباحاً في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر. وقال القفال: يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية، وأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حالة الجنون والإغماء فما أبيح قصده، بل لو أنفق من غير قصد كان مرفوعاً عن صاحبه.
{ولا جنباً} هذه حالة معطوفة على قوله: وأنتم سكارى. إذ هي جملة حالية، والجملة الاسمية أبلغ لتكرار الضمير، فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو: ولا جنباً. ودخول لا دالٌ على مراعاة كل قيد منهما بانفراده. وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده، فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين، وأدخل في الحظر. والجنب: هو غير الصحابة: لا غسل إلا على من أنزل، وبه قال الأعمش وداود. وهي مسألة تذكر أدلتها في علم الفقه.
والجنب من الجنابة وهي البعد، كأنه جانب الطهر، أو من الجنب كأنه ضاجع ومس بجنبه. قال الزمخشري: الجنب يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب انتهى. والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح، وبه جاء القرآن. وقد جمعوه جمع سلامة بالواو وإلنون قالوا: قوم جنبون، وجمع تكسير قالوا: قوم أجناب. وأما تثنيته فقالوا: جنبان.
{إلا عابري سبيل} العبور: الخطور والجواز، ومنه ناقة عير الهواجر وعبر أسفار قال:
عيرانه سرح اليدين شمله *** عبر الهواجر كالهجف الخاضب
وعابر السبيل هو المارّ في المسجد من غير لبث فيه، وهو مذهب الشافعي قال: يمرّ فيه ولا يقعد فيه. وقال الليث: لا يمرّ فيه إلا إن كان بابه إلى المسجد. وقال أحمد وإسحاق: إذا توضأ الجنب فلا بأس به أن يقعد في المسجد. وقال الزمخشري: من فسر الصلاة بالمسجد قال: معناه لا تقربوا المسجد جنباً إلا مجتازين فيه، إذا كان الطريق فيه إلى الماء، أو كان الماء فيه، أو احتلمتم فيه. وقيل: إنّ رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرّاً إلا في المسجد، فرخص لهم.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أن يمرّ فيه وهو جنب، إلا لعلي. لأنه بيته كان في المسجد» وقال عليّ وابن عباس أيضاً وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم: عابر السبيل المسافر، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، قالوا: لا يدخل المسجد إلا الطاهر سواء أراد القعود فيه أم الاجتياز، وهو قول: مالك والثوري وجماعة. ورجح هذا القول بأن قوله: لا تقربوا الصلاة يبقى على ظاهره، وحقيقته بخلاف تأويل مواضع الصلاة فإنه مجاز، ولا يعدل إليه إلا بعد تعذر حمل الكلام على حقيقته.
وليس في المسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر، وفي الصلاة قراءة مشروطة يمنع لأجل تعذر إقامتها من فعل الصلاة. وسمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق، كما سمي ابن السبيل.
وأفاد الكلام معنيين: أحدهما: جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به. والثاني: أن التيمم لا يرفع الجنابة، لأنه سماه جنباً مع كونه متيمماً. وعلى هذا المعنى فسر الزمخشري الآية أولاً فقال: إلا عابري سبيل، الاستثناء من عامة أحوال المخاطبين، وانتصابه على الحال. (فإن قلت): كيف جمع بين هذه الحال والتي قبلها؟ (قلت): كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر وعبور السبيل عبارة عنه. ويجوز أن لا يكون حالاً ولكن صفة كقوله: جنباً أي: ولا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل، أي: جنباً مقيمين غير معذورين. (فإن قلت): كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت: أريد بالجنب الذين لم يغتسلوا، كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين انتهى كلامه. ومن قال: بمنع الجنب من المرور في المسجد والجلوس فيه تعظيماً له، فالأولى أن يمنعه والحائض من قراءة القرآن، وبه قال الجمهور، فلا يجوز لهما أن يقرآ منه شيئاً سواء كان كثيراً أم قليلاً حتى يغتسلا، ورخص مالك لهما في الآية اليسيرة للتعوذ، وأجاز للحائض أن تقرأ مطلقاً إذا خافت النسيان عند الحيض، وذكروا هذه المسألة ولا تعلق لها في التفسير بلفظ القرآن.
{حتى تغتسلوا} هذه غاية لامتناع الجنب من الصلاة، وهي داخلة في الحظر إلى أن يوقع الاغتسال مستوعباً جميعه. والخلاف: هل يدخل في ماهية الغسل إمرار اليد أو شبهها مع الماء على المغسول؟ فلو انغمس في الماء أو صبه عليه فمشهور مذهب مالك: أنه لا يجزئه حتى يتدلك، وبه قال المزني: ومذهب الجمهور: أنه يجزئه من غير تدلك. وهل يجب في الغسل تخليل اللحية؟ فيه عن مالك خلاف. وأما المضمضة والاستنشاق في الغسل فذهب أبو حنيفة إلى فرضيتهما فيه لا في الوضوء. وقال ابن أبي ليلى وإسحاق وأحمد وبعض أصحاب داود: هما فرض فيهما. وروي عن عطاء، والزهري وقال مجاهد وجماعة من التابعين، ومالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، ومحمد بن جرير: ليسا بفرض فيهما. وروي عن أحمد: أن المضمضة سنة، والاستنشاق فرض، وقال به بعض أصحاب داود. وظاهر قوله: حتى تغتسلوا حصول الاغتسال، ولم يشترط فيه نية الاغتسال، بل ذكر حصول مطلق الاغتسال، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه في كل طهارة بالماء. وروي هذا الوليد بن مسلم عن مالك، ومشهور مذهبه أنه لا بد من النية، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
{وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} قال الجمهور: نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع، حين أقام على التماس العقد. وقال النخعي: في قوم أصابتهم جراح وأجنبوا. وقيل: كان ذلك عبد الرحمن بن عوف، ومرضى يعني في الحضر. ويدل على مطلق المرض قل أو كثر، زاد أو نقص، تأخر برؤه أو تعجل، وبه قال داود. فأجاز التيمم لكل من صدق عليه مطلق الاسم. وخصص العلماء غيره المرض بالجدري، والحصبة، والعلل المخوف عليها من الماء فقالوا: إن خاف تيمم بلا خلاف، إلا ما روي عن عطاء والحسن: أنه يتطهر وإن مات، وهما محجوجان بحديث عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، وأنه أشفق أن يهلك إن اغتسل فتيمم، فأقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، خرجه أبو داود والدارقطني.
وإن خاف حدوث مرض أو زيادته، أو تأخر البرء، فذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه يتيمم. وقال الشافعي: لا يجوز، وقيل: الصحيح عن الشافعي أنه إذا خاف طول المرض جاز له التيمم. وظاهر قوله تعالى: أو على سفر مطلق السفر، فلو لم يجد الماء في الحضر جاز له التيمم عند مالك وأبي حنيفة ومحمد. وقال الشافعي والطبري: لا يتيمم. وقال الليث والشافعي أيضاً: إن خاف فوت الوقت تيمم وصلى، ثم إذا وجد الماء أعاد. وقال أبو يوسف وزفر: لا يتيمم إلا لخوف الوقت. والسفر المبيح عند الجمهور مطلق السفر، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر. وشرط قوم سفراً تقصر فيه الصلاة، وشرط آخرون أن يكون سفر طاعة. وقال أبو حنيفة: لو خرج من مصره لغير سفر فلم يجد الماء جاز له التيمم، وقد المسافة أن يكون بينه وبين الماء ميل. وقيل: إذا كان بحيث لا يسمع أصوات الناس، لأنه في معنى المسافر. فلو وجد ماء قليلاً إن توضأ به خاف على نفسه العطش تيمم على قول الجمهور، فلو وجده بثمن مثله فلا خلاف أنه يلزمه شراؤه، أو بما زاد. فمذهب أبي حنيفة والشافعي. يتيمم. ومذهب مالك: يشتريه بماله كله ويبقى عديماً. فلو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع أو غير ذلك مما يحول فكالعادم للماء.
ومجيئه من الغائط كناية عن الحدث بالغائط، وحمل عليه الريح والبول والمني والودي، لا خلاف أن هذه الستة أحداث. وقد اختلفوا في أشياء ذكرت في كتب الفقه. وقرأ ابن مسعود: من الغيط وخرج على وجهين: أحدهما: أنه مصدر إذ قالوا: غاط يغيط. والثاني: أن أصله فيعل، ثم حذف كميت.
واختلفوا في تفسير اللمس، فقال عمرو بن مسعود وغيرهما: هو اللمس باليد، ولا ذكر للجنب إنما يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. قال أبو عمر: لم يقل بقولهم أحد من فقهاء الأمصار لحديث عمار، وأبي ذر، وعمران بن حصين في تيمم الجنب. وقال علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: المراد الجماع، والجنب يتيمم. ولا ذكر للامس بيده، وهو مذهب أبي حنيفة. فلو قبل ولو بلذة لم ينتقض الوضوء. وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، وكذا باليد إذا التذ فإن لمس بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي: إذا أفضى بشيء من جسده إلى بدن المرأة نقض الطهارة، وهو قول: ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة، وعبيدة، والشعبي، وابراهيم، ومنصور، وابن سيرين. وقال الأوزاعي: إن كان باليد نقض وإلا فلا. وقرأ حمزة، والكسائي: لمستم وباقي السبعة بالألف، وفاعل هنا موافق فعل المجرّد نحو: جاوزت الشيء وجزته، وليست لأقسام الفاعلية والمفعولية لفظاً، والاشتراك فيهما معنى، وقد حملها الشافعيّ على ذلك في أظهر قوليه.
فقال: الملموس كاللامس في نقض الطهارة.
وقوله: أو على سفر في موضع نصب عطفاً على مرضى. وفي قوله: أو جاء، أو لامستم دليل على جواز وقوع الماضي خبراً لكان من غير قد وادّعاء إضمارها تكلف خلافاً للكوفيين لعطفها على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر. فلم تجدوا ماء الضمير عائد على من أسند إليهم الحكم في الأخبار الأربعة. وفيه تغليب الخطاب إذ قد اجتمع خطاب وغيبة، فالخطاب: كنتم مرضى، أو على سفر، أو لامستم. والغيبة قوله: أو جاء أحد. وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة، لأنه لما كنى عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين، فنزع به إلى لفظ الغائب بقوله: أو جاء أحد، وهذا من أحسن الملاحظات وأجمل المخاطبات. ولما كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب. وظاهر انتفاء الوجدان سبق تطلبه وعدم الوصول إليه، فأما في حق المريض فجعل الموجود حساً في حقه إذا كان لا يستطيع استعماله كالمفقود شرعاً، وأما غيره باقي الأربعة فانتفاء وجدان الماء في حقهم هو على ظاهره. وفلم تجدوا معطوف على فعل الشرط فتيمموا صعيداً طيباً هذا جواب الشرط، أمر الله تعالى بالتيمم عند حصول سبب من هذه الأسباب الأربعة وفقدان الماء.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين، وبين المحدثين والمجنبين، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة، والحدث سبب لوجوب الوضوء، والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ (قلت): أراد سبحانه وتعالى أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون للماء في التيمم والتراب، فخص أولاً من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم، لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو، أو سبع، أو عدم آلة استقاء، أو إرهاق في مكان لا ماء فيه، أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر انتهى.
وفيه تفسيره: أو لامستم النساء أنه أريد به الجماع الذي تترتب عليه الجنابة، فسر ذلك على مذهب أبي حنيفة، ولم ينقل غيره من المذاهب. وملخص ما طول به: أنه اعتذر عن تقديم المرض والسفر بما ذكر. ومن يحمل اللمس على ظاهره يقول: إن هذا من باب الترقي من الأقل إلى الأكثر، لأن حالة المرض أقل من حالة السفر، وحالة السفر أقل من حالة قضاء الحاجة، وحالة قضاء الحاجة أقل من حالة لمس المرأة. ألا ترى أن حالة الصحة غالباً أكثر من حال المرض، وكذا في سائر البواقي؟.
قال أبو عبيدة والفراء: الصعيد التراب. وقال الليث: الصعيد الأرض المستوية لا شيء فيها من غراس ونبات، وهو قول قتادة، قال: الصعيد الأرض الملساء. وقال الخليل: الصعيد ما صعد من وجه الأرض، يريد وجه الأرض. وقال الزجاج: الصعيد وجه الأرض تراباً كان أو غيره، وإن كان صخراً لا تراب عليه زاد غيره: أو رملاً، أو معدناً، أو سبخة. والطيب الطاهر وهذا تفسير طائفة، ومذهب أبي حنيفة ومالك واختيار الطبري. ومنه {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} أي طاهرين من أدناس المخالفات. وقال قوم: الطيب هنا الحلال، قاله سفيان الثوري وغيره. وقال الشافعي وجماعة: الطيب المنبت، وقاله ابن عباس لقوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته} فالصعيد على هذا التراب. وهؤلاء يجيزون التيمم بغير ذلك، فمحل الإجماع هو أن يتيمم بتراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب. ومحل المنع إجماعاً هو: أن يتيمم على ذهب صرف، أو فضة، أو ياقوت، أو زمرد، وأطعمة كخبز ولحم، أو على نجاسة، واختلف في المعادن: فأجيز، وهو مذهب مالك، ومنع وهو مذهب الشافعي. وفي الملح، وفي الثلج، وفي التراب المنقول، وفي المطبوخ كالآجر، وعلى الجدار، وعلى النبات، والعود، والشجر خلاف. وأجاز الثوري وأحمد بغبار اليد. وقال أحمد وأبو يوسف: لا يجوز إلا بالتراب والرمل، والجمهور على إجازته بالسباخ، إلا ابن راهويه. وأجاز ابن علية وابن كيسان التيمم بالمسك والزعفران.
وظاهر الكلام: أنّ التيمم مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب، فمتى حصلت هذه الكيفية حصل التيمم. والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً بين الوجه واليدين والباء في بوجوهكم مما يعدى بها الفعل تارة، وتارة بنفسه. حكى سيبويه: مسحت رأسه وبرأسه، وخشنت صدره وبصدره على معنى واحد. وظاهر مسح الوجه التعميم، فيمسحه جميعه كما يغسله بالماء جميعه. وأجاز بعضهم أن لا يتتبع الغضون. وأما اليدان فظاهر مسحهما تعميم مدلولهما، وهي تنطلق لغة إلى المناكب، وبه قال ابن شهاب، قال: يمسح إلى الآباط، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي سنن أبي داود: «أنه عليه السلام مسح إلى انصاف ذراعيه» قال ابن عطية: لم يقل أحد بهذا الحديث فيما حفظت انتهى. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وابن أبي سلمة والليث: أنه يمسح إلى بلوغ المرفقين فرضاً واجباً، وهو قول: جابر، وابن عمر، والحسن، وابراهيم. وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان، وهو: قول علي، وعطاء، والشعبي، ومكحول، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود بن علي، والطبري، والشافعي في القديم، وروي عن مالك. وذهب الشعبي إلى أنه يمسح كفيه فقط، وبه قال بعض فقهاء الحديث، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث. ففي مسلم من حديث عمار «إنما كان يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك» وعنه في هذا الحديث: «وضرب بيده الأرض فنفض يديه، فمسح وجهه وكفيه» وللبخاري: «ثم أدناهما من فيه، ثم مسح بهما وجهه وكفيه» وفي مسلم أيضاً: «أما يكفيك أن تقول بيدك هكذا، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» وعند أبي داود «فضرب بيده الأرض فقبضها، ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه» فهذه الأحاديث الصحيحة مبينة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته.
وظاهر هذه الأحاديث الصحيحة وظاهر الآية يدل على الاجتزاء بضربة واحدة للوجه واليدين، وهو قول: عطاء والشعبي في رواية، والأوزاعي في الأشهر عنه، وأحمد وإسحاق وداود والطبري. وذهب مالك في المدوّنة، والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، والثوري، والليث، وابن أبي سلمة: إلى وجوب ضربتين ضربة للوجه، وضربة لليدين، وذهب ابن أبي ليلى والحسن إلى أنه ضربتان، ويمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم غيرهما. وأحكام التيمم ومسائله كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ولم يذكر في هذه السورة منه، وذكر ذلك في المائدة، فدلت على مذهب الشافعي في نقل شيء من الممسوح به إلى الوجه والكفين، وحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، ولذلك قال الزمخشري: (فإن قلت): فما تصنع بقوله في سورة المائدة: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} أي بعضه وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ (قلت): قالوا: إنها أي من لابتداء الغاية (فإن قلت): قولهم أنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن، ومن الماء، ومن التراب، إلا معنى التبعيض (قلت): هو كما تقول، والإذعان للحق أحق من المراء.
{إن الله كان عفواً غفوراً} كناية عن الترخيص والتيسير، لأن مَن كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، آثر أن يكون ميسراً غير معسر انتهى كلامه. والعجب منه إذ أذعن إلى الحق، وليس من عادته، بل عادته أن يحرف الكلام عن ظاهره ويحمله على غير محمله لأجل ما تقرر من مذهبه. وأيضاً فكلامه أخيراً حيث أطلق أن الله يعفو عن الخطائين ويغفر لهم، العجب له إذ لم يقيد ذلك بالتوبة على مذهبه وعادته فيما هو يشبه هذا الكلام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8